شهر الله المُحرَّم هو الشَّهر الأول من شهور السَّنة الهجريَّة، وهو أحدُ الأشهر الحرم التي ذكَرَها الله في كتابه العظيم؛ فقال جلَّ ذِكْره: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، فخصَّها الله بالتحريم دون غيرها.
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: (لا تَظْلموا أنفسكم في كلِّهن، ثم اختصَّ من ذلك أربعةَ أشهر، فجعلهنَّ حرُمًا، وعظَّم حرمتهنَّ وجعل الذَّنب فيهنَّ أعظم، والعمل الصالِحَ والأجرَ أعظم).
قال العزُّ بن عبدالسلام رحمه الله: (وتفضيلُ الأماكن والأزمان ضَرْبان: أحدهما: دنيوي، والضَّرب الثاني: تفضيل دينِيٌّ، راجِعٌ إلى أنَّ الله يَجود على عباده فيها بتفضيل أجْرِ العامِلين؛ كتفضيل صوم رمضان على صوم سائر الشُّهور، وكذلك يوم عاشوراء، ففَضْلُها راجِعٌ إلى جُود الله، وإحسانه إلى عباده فيها)[1].
وشهر محرَّم سُمِّي بذلك؛ لكونه شهرًا محرَّمًا، وتأكيدًا لتحريمه؛ لأنَّ العرب في الجاهليَّة كانت تتقَلَّب به، فتُحِلُّه عامًا، وتحرِّمه عامًا، ولقد سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المحرَّم: «شَهْر الله»، وإضافته إلى الله تدلُّ على شرَفِه وفضله وتعظيمه؛ فإنَّ الله تعالى لا يضيف إليه إلاَّ خواصَّ مخلوقاتِه، كما نَسب محمَّدًا وإبراهيمَ وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء- صلواتُ الله عليهم وسلامه- إلى عبوديَّتِه، ونسب إليه بيته وناقته.
قال الحسَنُ البصري: إنَّ الله تعالى افتتح السَّنَة بشهرٍ حرام- أي: المُحرَّم- وختمها بشهر حرام- أيْ: ذي الحجَّة- فليس شهرٌ في السَّنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرَّم، وكان يسمَّى شهر الله الأصمَّ؛ من شدة تحريمه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصِّيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة اللَّيل»[2]، فلمَّا كان هذا الشهر مختصًّا بإضافته إلى الله تعالى، وكان الصِّيام من بين الأعمال مضافًا إلى الله تعالى؛ فإنَّه له من بين الأعمال- ناسبَ أن يختصَّ هذا الشهر المضافُ إلى الله بالعمل المضافِ إليه، المختصِّ به، وهو الصِّيام.
قال القاري: الظَّاهر أنَّ المُراد جميع شهر المحرَّم، ولكن قد ثبت أن النبِيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَصُم شهرًا كاملًا قطُّ غير رمضان، فيُحمَل هذا الحديث على التَّرغيب في الإكثار من الصِّيام في شهر محرَّم، لا صومه كله، وقد ثبت إكثارُ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم من الصوم في شعبان، ولعلَّ لَم يُوحَ إليه بفضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكُّن من صومه[3].
وقال ابن رجب: والذي يَظْهر لي- والله أعلم- أنَّ التطوُّع بالصيام نوعان:
أحدهما: التطوُّع المُطْلَق بالصوم؛ فهذا أفضَلُه المحرَّم، كما أنَّ أفضل التطوُّع بالصلاة قيام اللَّيل.
الثاني: ما صيامه تبَعٌ لِصيام رمضان قبله وبعده، فهذا ليس من التطوُّع المطلق، بل صيامه تبعٌ لصِيام رمضان، وهو ملتحِقٌ بصيام رمضان؛ ولهذا قيل: إنَّ صيام ستَّة أيام من شهر شوَّال يلتحق بصيام رمضان، ويُكتَب بذلك لمن صامها مع رمضان صيامُ الدَّهر فرضًا، فهذا النَّوع من الصيام يلتحق برمضان وصيامه أفضل التطوُّع مطلقًا، فأمَّا التطوُّع المطلق فأفضله صيام الأشهر الحرُم، وأفضل صيام الأشهر الحرم صيام شهر الله المحرَّم، ويشهد لهذا أنَّه صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث: «وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة اللَّيل»، ومُراده بعد المكتوبة ولواحقِها من سُننِها الرَّواتب؛ فإنَّ الرواتب قبل الفرائض وبعدها أفضلُ من قيام الليل عند جمهور العلماء؛ لالتِحاقها بالفرائض، فكذلك الصيام قبل رمضان وبعده ملتحِقٌ برمضان، وصيامه أفضلُ مِن صيام الأشهر الحرُم، وأفضل التطوُّع المطلق بالصيام صيام المحرَّم[4].
وأفضل أيام شهر الله المحرم العشر الأوَّل:
قال أبو عثمان النَّهدي: كانوا يعظِّمون ثلاث عشرات: العَشْر الأخير من رمضان، والعشر الأوَّل من ذي الحجَّة، والعشر الأوَّل من المحرَّم.
وقد قيل: إنَّه العشر الذي أتَمَّ الله به ميقات موسى عليه السَّلام أربعين ليلة، وأن التكلُّم وقع في عاشرِه، ورُوي عن وهب بن منبِّه، قال: أَوحى الله تعالى إلى موسى أنْ مُرْ قومك أن يتقرَّبوا إلَيَّ في أول عشر المحرَّم، فإذا كان اليوم العاشر فلْيَخرجوا إليَّ أغفِرْ لهم.
قال ابن رجب: ولمَّا كانت الأشهر الحرمُ أفضلَ الأشهر بعد رمضان أو مطلقًا، وكان صيامها مندوبًا إليه، وكان بعضها ختام السَّنة الهلاليَّة، وبعضها مفتاحًا لها؛ فمن صام شهر ذي الحجَّة- سوى الأيام المحرَّم صيامها منه- وصام المحرَّم، فقد ختم السَّنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة، فيُرجى أن تُكتبَ سنته كلها طاعة، فإنَّ من كان أول عمَلِه طاعة وآخره طاعة، فهو في حُكْم من استغرقَ بالطاعة ما بين العمَليْن.
قال ابن المبارك: مَن ختم نَهاره بذِكْر الله، كتب نهاره كله ذِكرًا، يشير بذلك إلى أنَّ الأعمال بالخواتيم، فإذا كان البداءة والختام ذِكرًا؛ فهو أولى أن يكون في حُكْم الذِّكْر شامِلًا للجميع، ويتعيَّن افتتاحُ العامِ بتوبةٍ نَصوح تَمْحو ما سلفَ من الذُّنوب السالفة في الأيام الخالية[5].
وأفضل العشر الأول من المحرم يوم عاشوراء:
قال النوويُّ رحمه الله: عاشوراءُ وتاسوعاءُ اسمان مَمْدودان، هذا هو المشهور في كتب اللُّغة، قال أصحابُنا: عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرَّم، وتاسوعاء هو التَّاسع منه، وبه قال جمهورُ العلماء، وهو ظاهرُ الأحاديث ومقتضى إطلاق اللَّفظ، وهو المعروف عند أهل اللُّغة[6].
وهو اسمٌ إسلامي لا يعرف في الجاهليَّة[7]، وقال ابن قُدَامة رحمه الله: عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرَّم، وهذا قول سعيد بن المسيّب والحسَن.
فضائل هذا اليوم المبارك:
1- أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ أهل المدينة بصيامِه، قبل فرض صيام رمضان، وأرسل الصحابة يُنادون بذلك، بل لقد صامه صِغارُ الصحابة وصبيانُهم؛ فعن الرُّبَيع بنتِ معوّذ بن عَفْراء قالَتْ: (أرسلَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غداة عاشوراء إلى قُرى الأنصار التي حول المدينة: من كان أصبح صائمًا فليُتِمَّ صومَه، ومن كان أصبح مفطِرًا فليُتمَّ بقيَّة يومه)، قالت: (وكنَّا نَصومه بعد ذلك، ونصوم صبيانَنا الصغار، ونجعل لهم اللُّعبة من العِهْن، ونذهب بهم إلى المسجد، فإذا بكى أحدُهم على الطعام أعطيناه ذلك، حتَّى يكون عند الإفطار)[8].
2- أنَّ صيام عاشوراء يُكفِّر الخطايا والذُّنوب لسنةٍ كاملة إذا اجتُنِبت الكبائر؛ فعَن أبي قتادة رضي الله عنه أنَّ رجلًا سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عاشوراء؟ فقال: «أحتَسِبُ على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله»[9].
3- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوخَّى صيامه، ويتحرَّى فضله، ويطلب أجره؛ فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما وسُئِل عن صيام يوم عاشوراء؟ فقال: (ما علمتُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلاَّ هذا اليوم- يعني يوم عاشوراء- ولا شهرًا إلاَّ هذا الشهر) يعني شهر رمضان[10].
4- إنَّ من الأنبياء- عليهم صلاة الله وسلامه- مَن صام يوم عاشوراء لِشَرَفه ومكانته:
أ- فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِم المدينة فوجدَ اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا اليوم الَّذي تصومونه؟»، فقالوا: هذا يومٌ عظيم؛ أنجَى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعونَ وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فنحن أحَقُّ وأولى بموسى منكم»، فصامه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأمرَ بصيامه[11].
ب- أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم صامه بمكَّة قبل الهجرة؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يومُ عاشوراء تصومه قريشٌ في الجاهليَّة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدم المدينة، صامه وأمر بصيامه، فلمَّا فُرِض رمضان تركَ يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه[12].
وعن حُمَيد بن عبدالرَّحمن أنه سمع معاويةَ بن أبي سفيان رضي الله عنهما يوم عاشوراء عامَ حجَّ، على المنبر يقول: يا أهل المدينة، أين عُلَماؤكم؟! سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هذا يوم عاشوراء، ولَم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فلْيَصم، ومن شاء فليُفطر»[13].
5- أن يوم عاشوراء يومٌ تاب الله عزَّ وجلَّ فيه على بعض عباده؛ فعن عليٍّ رضي الله عنه أنَّ رجلًا سأله، فقال: أيَّ شهرٍ تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان؟ قال له: ما سمعت أحدًا يسأل عن هذا إلاَّ رجلًا، سمعتُه يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قاعدٌ عنده، فقال: يا رسول الله، أيَّ شهرٍ تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان؟ قال: «إن كنتَ صائمًا بعد شهر رمضان فصُم المُحرَّم؛ فإنَّه شهر الله، فيه يومٌ تاب فيه على قوم، ويَتوب فيه على قومٍ آخَرين»[14].
6- أنه يومٌ تاب الله فيه على آدم عليه السَّلام فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: هذا اليوم الذي تِيبَ فيه على آدم، وسأل رجلٌ ابن عمر رضي الله عنه عن صيام يوم عاشوراء؟ فقال: (المحرَّم شهر الله الأصم، فيه يوم تِيبَ فيه على آدم، فإن استطعت ألاَّ يَمر بك إلاَّ وأنت صائم، فافعل).
7- أنَّه يوم تُكْسى فيه الكعبة في الجاهليَّة؛ فقد روى الطبرانِيُّ عن ابن زيد، عن أبيه قال: ليس يومُ عاشوراء باليوم الذي يقول الناس، إنَّما كان يومَ تُستَرُ فيه الكعبة.
ولصيام عاشوراء مراتبُ أربع، هي:
• صوم التَّاسع والعاشر والحادي عشَر، وهي أفضل المراتبِ وأكمَلُها.
• صوم التاسع والعاشر وهي المرتبة الثَّانية.
• صوم التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشَر.
• صوم العاشر فقط، وهو أقلُّ المراتب الأربع وأدناها.
=======================
[1] قواعد الأحكام 1/ 38.
[2] رواه مسلم، كتاب الصيام، رقم 1982.
[3] شرح النووي على صحيح مسلم.
[4] لطائف المعارف ص 56، بتصريف يسير، ط المكتبة التوفيقية بتحقيق عماد زكي البارودي.
[5] لطائف المعارف ص 59، بتصريف يسير.
[6] المجموع للنووي.
[7] كشَّاف القناع، ج2 صوم المحرم.
[8] متفق عليه؛ البخاري برقم 1960، ومسلم برقم 1136.
[9] رواه مسلمٌ، كتاب الصوم، برقم 1976.
[10] متًفق عليه؛ البخاري برقم 2006، ومسلم، برقم 1914.
[11] رواه مسلم، كتاب الصوم، برقم 1911.
[12] البخاري، كتاب الصوم، برقم 1863.
[13] رواه البخاري، كتاب الصوم، برقم 1864.
[14] رواه الترمذي، كتاب الصوم، برقم 672 (ضعيف)، حديث رقم 1298 في ضعيف الجامع.
الكاتب: د. خالد النجار.
المصدر: موقع الألوكة.